كتبت أوغيت سلامة في “المسيرة” – العدد 1434:
ثمانون مرّت ولم تترك إلا ذاكرة متوقدة ومواقف وطنية تعجق تاريخ لبنان باسم إدمون رزق. صدى خُطبه المدوية لطالما عشقتها المنابر، أما مواقفه فتنبع من إيمان أن السياسة نفاق ووحده العمل الوطني وسام على الصدر ورسالة لا تُثقل المنكبين العريضين.
في مكتبه في الأشرفية، النائب طيلة 25 عاماً ووزير العدل والاعلام والتربية الوطنية السابق، إستعاد مع “المسيرة” وكالته بالدفاع عن الدكتور سمير جعجع ونضاله معه في سبيل لبنان ورفضاً لإستفراد قائد “القوات اللبنانية” الذي عرَف وأحب، وتصدياً لطريقة غاشمة كما وصفها في التعامل معه تخرق القانون بإلغائها مبدأ المساواة. الحرّ في مواقفه مهما كلّف الثمن، تولى الدفاع عن الحكيم في تهمة محاولة إغتيال الوزير السابق والنائب ميشال المرّ بعدما لمس واقتنع أن ثمة تصفية حسابات وتهويل يرمي الى ارتداد العبرة على جمهور الحزب القواتي.
إدمون رزق يتذكر في هذا اللقاء محطات المواجهة، ويتصفّح في ملف تلك القضية التي تستحق أن تُجمع في كتاب كما لاحظ بدهشة، يُضّم الى ملحمة تاريخ لبنان المكتوبة بدم الشهداء ونضال شبابه الأوفياء.
عندما طلب منك التوكل عن الدكتور سمير جعجع في ظل الظروف المخابراتية الضاغطة آنذاك ألم تتردّد؟
في الحقيقة عندما إغتيل داني شمعون في العام 1990 كنت وزيرًا للعدل، وطلبتُ حينها من مجلس الوزراء إحالة الجريمة على المجلس العدلي، وبصفتي وزيرًا عَيّنت القاضي منير حنين محققًا عدليًا في القضية وهو الذي أصبح لاحقًا رئيسًا لمجلس القضاء الأعلى، حينها عينته لسببين، أولًا لأنه إبن دير القمر وثانيًا لأنه يوحي بالثقة لآل شمعون.
لاحقًا عندما أوقف الدكتور جعجع جاءت ستريدا وطلبت مني التوكل عن الحكيم بطلب منه، فقلت لها أنا متضامن كليًا مع الحكيم ومقتنع كليًا ببراءته لكن لا يمكن لي التوكل عنه لأني أنا الذي حولت الجريمة على المجلس العدلي وفي أدبيات ممارسة المهنة لا يحق لي التوكل فيها. كان هناك مانع في تحويل تلك القضية بالذات والتوكل فيها. فاعتذرت. أذكر أنها زارتني مع بعض الزملاء المحامين وأبديت تعاطفي وأعربت عن قناعتي ببراءة الدكتور جعجع من جريمتي اغتيال داني شمعون وتفجير الكنيسة على السواء.
بعد عامين فبركوا قصة ميشال المرّ، تصفّحت الملف وأدركت ان القصة مفبركة لان القضية بقيت 4 الى 5 أعوام مجرّد دعوى في المحكمة العسكرية ثم بسحر ساحر حولها قاضي التحقيق العسكري على المجلس العدلي. يومها لم تتحول بقرار من مجلس الوزراء بل استندوا الى نص في قرار العفو الذي رفضته أساسًا في المجلس النيابي وبصفتي وزيرًا للعدل وإعتبرته قانونًا غير دستوري وغير عادل، ذاك النص يقول: تُعتبر محالة على المجلس العدلي الجرائم الواقعة على القادة السياسيين. وبعد 5 سنوات من ملاحقة آخرين معروفين وربما بعضهم إعترف حتى بالجريمة، بعد كل هذه الأعوام رفع القضاء العسكري يده عنها وحولها الى المجلس العدلي باعتبار ان المعني أي الوزير والنائب ميشال المر قائد وطني وزعيم سياسي. هذه الاحالة غير منطقية وغير أخلاقية. وبكل أسف كان هناك ترويج من قبل لفكرة “الآمر الناهي” وأن سمير جعجع الآمر الناهي في حزب “القوات”، ما يعني أن كل ما ارتكب هو المسؤول عنه. وهنا لا شك أن بعض رفاق سمير جعجع وبشهاداتهم هم الذين ورّطوه.
أحكم الطوق حول سمير جعجع ومن دون أي تردّد توكلت في القضية وأنا عندما أتوكل لا أعتبر نفسي وكيلًا مهنيًا بل متضامنًا مع صاحب الحق، وانا أعرف وأحب سمير.
كنت مدركًا أن حماسة سمير جعجع الوطنية وإيمانه بوطنه دفعا به الى الانتقال من طالب طب في السنة الاخيرة الى مدافع عن لبنان كما كل الشباب، فاعتبرت ذلك نوعًا من الشهادة ولا يجوز ان يترك وحيدًا. لذا وبعد تحسّسي لمعاناة الدكتور جعجع وعائلته والخرق الذريع لمبدأ المساواة في القانون إعتبرت توكلي عن الدكتور جعجع في صميم رسالتي كمحام وأنا الحريص على التعاطي مع المهنة وفقًا لطقوسها الأصلية وارتباطها الأساسي بالموقف الفكري، فليس لي أن أدين أو أبرئ، إنما عليّ أن أدافع.
هذا مع العلم أنني أختلفت مع الدكتور جعجع في بعض المواقف السياسية والنظريات، “غلّطوا معي” لكني لم أعتبر أن ذلك يشكل مانعًا في أن أكون الى جانب الحق. لذا أكرّر، توكلت لانني آمنت أنه لا يجوز أن يُستفرد ويُترك وحيدًا، علمًا أنني كنت أعلنت بعد توليّ وزارة العدل أنني لن أمارس المحاماة كمهنة بل كرسالة فقط ولن أنزل الى العدلية الا إذا كان ذلك في سبيل قضية وطنية أو إنسانية.
كأنه يرافع الآن على قوس المحكمة، تستعيد في حديثه “الخِطبة” أجواء تلك القاعة يوم وقف أمام المجلس العدلي وقال:
” … وأسأل من الماثل في هذا القفص؟
أصدقكم أنه تواردت الى بالي صور وأسماء منها: المعتمد بن عبّاد، ومنها أبو فراس الحمداني، ومنها جان دارك، ومنها درايفوس، ومنها مانديللا… لكنني قرّرت بالنتيجة أن الماثل أمامكم هو سمير فريد جعجع، من بشري، مدينة المقدمين، مهد الأرز، رجل قضية من لبنان، رجل قضية… فتى القضية. …. لم أكن مرة في عداد الواقفين ببابه … لكنني اليوم أشعر بجزء كبير مني الى جانبه في القفص او هناك في الزنزانة…
لولا سمير جعجع مجردًا من الألقاب … لولا هذا الناحل الأجلح لما كان الطائف، ولا من يطوفون، ولا كانت حكومات متعاقبة منذ الحكومة الأولى التي توليت فيها ثلاث حقائب مجتمعة. لولا أنه لم يكن على الساحة قابلاً وموافقًا ومنتميًا الى مشروع الدولة بكليته لما بقي من هذا الكيان الموّحد شيء….”.
تقارن موقفه الجريء بموقف غبطة البطريرك صفير عندما سأل، وهل سمير جعجع وحده قائد ميليشيا في حرب لبنان ليحاكم وحيدًا؟ “ينرفز” ويؤكد:
لست مثل أحد ولو كان غبطة البطريرك، أنا تعاطفت وأخذت موقفًا ضد تلك الطريقة التي فيها إمتهان للعدل وإنتقاص لكرامة الانسان واعتداء واستهداف لفئة من الناس دافعت عن لبنان.
تضامنت على رغم كل الضغوط ولم أسكت على رغم الخطر الداهم بوجهنا، وكانت جزين مستفردة ومقطوعة. انا بمواقفي المبدئية ما “بعمل حسابات” كنت أزوره في السجن وأتحمل أمورًا لا تحدث معي كـ “إدمون رزق”. لكن كوكيل لسمير جعجع كنت أتحمّلها.
كنت نائبًا لمدة 25 عامًا ووزيرًا للتربية الوطنية والفنون الجميلة والاعلام منذ العام 1973، وكنت وزيرًا للعدل، لكني إعتبرت أنني موقوف مع سمير جعجع، هو موقوف تحت الارض وانا أنزل اليه تحت الارض. وأنا بالعادة كنت اذا قصدت وزارة الدفاع إما يلاقيني وزير الدفاع وإما قائد الجيش، صرت بدي أوقف مع المحامين الشباب معي…كانوا هم يخلصون معاملات المواجهة الشكلية وأنا أنتظر.
لقاؤك الأول بالدكتور جعجع كان الإثنين 11 أيلول العام 2000 قلت يومها أنك تلتقيه بعد إنقطاع دام 1230 يومًا أي أنك كنت تعد الأيام، ماذا بقي من تلك اللقاءات في الذاكرة؟
في اللقاءات كانت تبدو معنوياته عالية يلاقينا بالمودة، وكنا نكلمه من خلف الحاجز الزجاجي، ودائمًا تحت الرقابة. كانوا يأتون به معصوب العينين ومكبلًا. معنوياته كانت دائمًا قوية لأن إيمانه كبير وكان يطلب الكتب دائمًا.. وهنا أريد أن أنوه بشباب “القوات” الذين كانوا خارج السجن فهم مفخرة للبنان وللإنسانية لما تحملوه من ملاحقات وإضطهاد.
تبنيت القضية الى النهاية وكنت أعتبر أنني لا أعمل من أجل سمير جعجع بل من أجل قضية وطنية تأتي في إطار تحقيق العدالة وفي سبيل الكرامة الانسانية وكنت أدافع عن سمير جعجع من خلال القيم الوطنية.
تعرضت للاضطهاد والتهديد كما كل الذين أيّدوا هذه القضية؟
قبل قضية سمير جعجع تعرض بيتي في سن الفيل للقصف وبيتي في جزين للنسف وسيارات اولادي للتفجير ولم يثنني شيء عن قناعاتي. أنا توقفت عن العمل السياسي قبل أن أتسلّم قضية الدكتور جعجع لأنني كنت رافضًا للإنتخابات على رغم الإغراءات والعروض وأخذنا موقفًا بالمقاطعة العام 92 على رغم العروض. سمير جعجع لم يقبل أيضًا وصدر مرسوم تعيينه وزيرًا مرتين.
لا أريد أن أقول إنه كان لدى أحدهم وقاحة أن يتصدّى لي شخصيًا لأن كل الموجودين في السلطة كانوا أساسًا ذوي أحجام معروفة. ما من شك ان أي مصلحة لي لم تكن تمرّ، كان هناك مهابة عُمرها سنوات من العمل الوطني.
وكالتي عن سمير جعجع كانت تأكيدًا لمسيرتي المهنية في الدفاع عن القيم والعدالة وما كانت القصة ان سمير جعجع بريء أو لا، كان له الحق بمحامين الى جانبه وهنا أريد أن أنوّه بكل المحامين الذين وقفوا الى جانبه خصوصًا النقيب عصام كرم وإدمون نعيم وموسى برنس رحمهما الله وأسعد أبي رعد وسميح بشراوي وأنطوان مارديني وإيلي لحود وجهاد عبدلله والجميع ممن عملوا وكالات عن الدكتور جعجع للمهنية العالية والاندفاع، كانت أسماء كبيرة جعلت القضية تبقى في ذهن الرأي العام. وهنا أريد أن أنوّه أيضًا بكل الشباب وبستريدا و”المسيرة” وفيفيان وكل الصحافيين والشباب الذين واجهوا. البعض منهم ربما ضعفوا لكن لولا التزامهم ما كانوا تعرّضوا.
تخطى الموضوع الحقوقي ولعب دورًا إعلاميًا كبيرًا عبر إبقاء الجذوة الإعلامية متوقدة كما يحب أن يصفها ومما كتب رسالة بعنوان “رسالة إليه… وإن لم يقرأها” نشرت في “المسيرة” في فصح العام 2004 ختمها: “… وأقول يا عزيزي سمير إن أشرف ما يقوم به مجلس النواب، تكفيرًا عن زلّات كثيرة وإستعادة لاعتبار، وكل الماثلين في السلطة المحلية، هو أن يبادروا معًا، وفورًا، الى إنجاز إقتراح القانون المعجّل المكرّر لمحو وصمة إعتقالك، والتطهّر من جريمة منع المصالحة، بين العائلات الروحية وأبناء الشعب الواحد، وطي صفحة الحروب العبثية نهائيًا، واسترجاع لبنان المجتمع الانساني، الوطن الرسالة…
عزيزي سمير، أنت لا تستجدي، ولا نحن نستعطي لكننا ننصح، ونأمل… يقينًا منا أن الرجال هنا، حاضرون، وأن الرجال، لا محالة راجعون”!
فهل تبادر الى ذهنه يومًا أن هذه الرجعة التي توقعها ستعيد الدكتور جعجع للعب هذا الدور الوطني اليوم؟ يجيب:
“لم أفكر يومًا أن سمير جعجع سيخرج من السجن ويلعب دورًا سياسيًا بهذا الحجم بل كنت أفكر أنه سيحصل على العدالة ويخرج من بعدها الى الحرية.
سمير قال لي مرة “الحرب هي الحرب وفي الحرب حاربنا. لكن خارج الحرب ما ارتكبنا”. دفعنا ثمن هذا البلد دمًا، وأنا اليوم على مشارف الثمانين “في 11 آذار بيصير عمري 80″ ومستعد أن أدافع عن لبنان.
انا خطيب في عاشوراء منذ 50 عامًأ، ليلة الوقيعة في اليوم العاشر من محرّم وكانت المواجهة قد بدأت منذ الأول من محرّم بين يزيد والحسين الذي أتى من مكة الى الفرات لنجدة جماعته، ليلتها قال لهم “إذهبوا خذوا الليل سترًا” فقالوا له “لا خير في الدنيا بعدك”. يعني من له قضية لا يهرب، لا كمن له مصلحة يلتمسها في كل مكان ويرى أين مصلحته أكبر ويهرب من المواجهة ويترك بلده.
أنا مثل سمير رفضت رئاسة الجمهورية العام 89 بعد إغتيال رينيه معوض، لأنها كانت مشروطة بأخذ “البركة”.
يمكن للانسان منا أن يقول لا، ونحن رفضنا أن نبقى وزراء في العام 92 ، رفضنا ولم يقصنا أحد فنحن لا نقايض كرامة بمكسب”.
أنت إذًاً مع خِيار سمير جعجع مع أن كُثرًا لاموه واعتبروا أنه كان يجب أن يفعل كما غيره ويدير “القوات” من الخارج؟
لقد إتخذ الخِيار اللائق والمشرّف. لو خرج من لبنان لكان صفّى القضية. خياره هو الذي صنع منه سمير جعجع الرمز وليس فقط القائد.
خروج سمير جعجع ووجوده في موقع سلطة فاعل ومؤثر اليوم يحمّله مسؤولية كبرى ويفرض عليه تأهيلاً مُستدامًا. ربما وحده خرج من السجن وعاد وجنى الكثير من سجنه، لكن كثرًا عانوا ودفعوا الأثمان ويجب أن يُعتبروا شركاء. لا نريد إقصاءً لأحد لأن الإقصاء ينقض كل ما حصل من توظيف للمعاناة للوصول الى هذه المرحلة.
بين أكثر من مئتي صفحة من الملف الذي جمع فيه مرافعاته عن الدكتور جعجع والمذكرات التي رفعها الى البطريركية المارونية والفاتيكان والأمم المتحدة، والمقالات التي كتبها لوقد نار الشُعلة… تنظر اليه وتسأل: هل سيحظى لبنان برجالات من هذا الطراز في زمن صار الوطنيون من الرجال… قليلُ؟!
*لأن السجون تعبت من صلابتهم ولم يتعبوا، ولأن الساحات ضاقت بنضالاتهم ولم يستكينوا، ولأنهم بيومياتهم وكل من موقعه أكملوا لوحة الـ4114 يوماً التي رسمها سمير جعجع بالايمان والصمود والرجاء، ينشر موقع “القوات اللبنانية” الإلكتروني بالتعاون مع مجلة “المسيرة” ما عرضته في خانة “سجون وساحات” من حكايات رفاق ستبقى خالدة في وجدان القضية.