إذا كان بعضهم يُشكك في جدوى الحوار القواتي – العوني، ويتساءل عمّا حققه من اهدافٍ استراتيجية حتى الآن، فإن مبدأ هذا الحوار بحدّ ذاته هو الضرورة الاستراتيجية عينها.
فهل من نتائج استراتيجية اكبر واعظم من ان ينسى او يتناسى الطرفان المسيحيان الرئيسيان تاريخ الحقد والخلاف والدم بينهما، في هذا الظرف المصيري العصيب، فيجلسان وجهاً لوجه من دون قفّازات ليطرحا الهواجس المشتركة، ويعملان على إزالة اسباب وترسّبات الماضي البغيض بينهما؟
هل من إنجازٍ يفوق هذا الإنجاز استراتيجيةً وعظمةً، بأن يفلح طرفا الحوار في تبريد الأجواء داخل المجتمع المسيحي، والإلتزام التام بوقف السجالات الإعلامية التي انهكت المسيحيين، والعمل على إيجاد قواسم مشتركة يمكن البناء والتعويل عليها مستقبلاً؟
الحق يُقال إن التاريخ سوف يّدون في سجّلاته، بعد 20 او خمسين او مئة سنة، أن رجلاً اسمه ملحم الرياشي، بطلبٍ وغطاءٍ وإيعازٍ من قائد تاريخي سمير جعجع، توصّل بفضل مثابرته، والتزامه، ونفسِه الطويل، وإيمانه بالقضية، الى تفاهمٍ مع “التيار الوطني الحر” يوقف ميكانيكية التدمير الذاتي لدى المسيحيين بعد عقودٍ وعقودٍ من الحقد والدم والبغضاء والإنحدار، وأن طالع المسيحيين بدأ منذ ذلك الحين بالإشراق، بعد طول ركودٍ وإنحدار.
يقول مفكّر سياسي معروف: “إن الكراهية التي يجلبها المرء لنفسه قد تنتج عن الأعمال الطيبة بقدر ما تنتج عن الأعمال الشريرة”.
من هنا فإن الأعمال الطيبة التي يقوم بها الرياشي قد تكون جلبت له كراهية البعض، لكن ذلك لا يمكنه ابداً التقليل من قيمة ومبدأ وطيبة الحوار الذي يتولاّه، امّا الذّم والضغينة والحسد والشك والشر،ّ فهي صفات لا تُلازم سوى مُطلقي هذه الأقاويل دون سواهم.
اذكر انه في ربيع العام 1989، في اوجّ الحصار الأسدي، البحري والبرّي، على المناطق الشرقية خلال “حرب التحرير”، جازف قبطانٌ لبناني – ارمني بحياته، في سعيه لإدخال المؤن والنفط عبر البحر الى المناطق الشرقية آنذاك، واذكر ان مدفعية النظام الأسدي تمكّنت في إحدى المرّات من إصابة باخرته إصابةً مباشرة تسببت باستشهاده. امّا الشيء الذي لا يمكنني نسيانه ما حييت، فهو لقب “بطلٍ قومي مسيحي”، الذي اطلقه الشعب المسيحي على هذا القبطان المقاوم البطل.
صحيحٌ ان القبطان لم يكن سوى مجرد وسيط بين الشركات المُصدّرة في الخارج والشركات المُستوردة داخل المناطق الشرقية، لكنه مع ذلك ابى إلاّ ان يوصل الأمانة الى برّ الأمان في التاريخ المحدد، حتى ولو جازف بحياته، مُضفياً على عمله البسيط والروتيني بالأساس، طابعاً من الإلتزام والشرف والنبل قلّ نظيره.
نجحت ملحم الرياشي في لعب دور الوسيط الصالح والأمين والشريف، فشكراً للمشككين والمفترين، لأنهم بذلك يُثبتون نظريةً قديمةً تقول إن الحجارة لا تُرمى إلاّ على الأشجار المُثمرة.
والفضل الأكبر يبقى في النهاية للدكتور سمير جعجع الذي استطاع التعالي على جراح الماضي، ومراكمة النقاط الإيجابية واحدةً واحدة، وإعلاء البنيان المسيحي والوطني لبنةً لبنة… واختيار الرجال المناسبين، للأعمال الوطنية المناسبة.